نسيتني عندك

غدير منصور

لقد نسيتني عندك، ابحث عني، في أحد رفوف مكتبتك، ما بين دواوين درويش المصفوفة خلف بعضها، خلف دواوين قاسم حدّاد، مستلقية بكسل بجانب كتاب في مدح الكسل لبرتراند راسل، داخل أحد الكتب، مختبئة داخل أحد صناديق الرفوف السفليّة بعدما التففتُ بورقة إحدى الجرائد الصغيرة، أو على مكتبك جالسة أواسي الكتب التي لم تجد لها مكانًا في مكتبتك، أو أقلّب في روزنامتك لتمنّيّٓ بأن أكون كل أيامك القادمة، فتّش، ربما أكون نائمة داخل صندوق العود، متمددة على زنده، في حقيبته مغلقة على نفسي، أو ما بين أوتاره ربما قد علقت خصلة من شعري وأنتظرك تخلّصني، أتعتقد أني صرت نغمة طارت مع تجربتنا العزف؟ إن كنتُ حقًا، فمِل برأسك حتى أسقط من أذنك، فإني بالتأكيد ساكنتها، تأكّد، ربما قد أغلقتٓ علي ما بين دفّتي ديوان زاهي وهبي، وانظر إلى غلاف الديوان ربما تجدني إياه وقد “تبرّجتُ لأجلك” لشدة ما فتنني اسم الديوان، أو أصبحت قصيدة فيه لشدة ما أغراني صوتك وأريدك أن…

View original post 409 كلمات أخرى

تنهيدة غضبى

إلى طلابي الأعزاء، لقد كتبت هذا النص عند ثورة ألم، أرجو أن تدركوا فحواه، فلا تكونوا نُسخًا، أن تختاروا حياتكم، لا أن يتمّ اختيارها لكم.

من أنتم؟ ولا يثير اهتمامي أن أعرف، فأنا أعرف من أنتم، لستم سوى بيادق تتحرّك وفق رغبة الآخر، والآخر هذا هو الأسرة وأخصّص من الأسرة والدُوكم، والآخر هو المجتمع، والآخر هو الدين، والآخر هو السلطة، لستم سوى بيادقَ، وليس لكم في المصائر، مصائركم، وجهة نظر أخرى، أنتم ظلالٌ تتحرّك وفقًا لاهتزاز الأجسام، أنتم نُسخٌ لكثرة تعدّد استنساخها وتناسخها استحالت مسخًا ومسوخًا، أول الأولين المُعرّفين يفكّر، ومَن بَعده يصطلح لنفسه ذات المنهج، ومَن بَعد البَعد يصنع مثل البَعد الأول، فينهج النهج نفسه، وها أنتم تكرّرون الحياة التي حدثت منذ سنين عددًا، منذ سنين أعدادًا، حتى أصبحت الحياة حقّاً فيها من العبث ما لا يمكن لواحدنا أن يقبض عليه فيفكّكه كي يفهم ما الذي يحدث، فكل ما يحدث هو عبارةٌ عن تكرّر مستمرّ، لا يُصاب منه بالغثيان سوى المختلفين أولئك الذين لم يصيروا نُسخًا، أولئك الذين طفُوْا عن الموج متمسّكين بما يصطلحون به من مفهوم للحياة، أولئك الذين قالوا لا، أولئك الذين قالوا كلا، أولئك الذين جاوبوا النفي صارخين بلى، أولئك الذين لا يريدون أن يتحوّلوا إلى أشباح، أولئك الذين يريدون أن يحيَوا طالما قد لبسوا ثوب العيش لم يُستشاروا، أولئك الذين قال كل واحد منهم: أنا… لي. أنا لست لكم أنا لن يتمّ اتخاذي سِخريّاً، لي في الرواية وجهة نظر أخرى، لي في مصيري قرارٌ أنا أهله، لي في حياتي فكرة أنا أبوها، أنا أمها، لي في حياتي حياة خارجةً عنكم، وعليكم ودونكم حتى، من أنتم؟ ألفيتم الحياة مُيسّرةً أمامكم بكل المفاهيم، تغرفون من المعرفة السابقة ما يناسب ركود طمأنينتكم، صدوركم آسنة أنها ما ترتعش، وجباهكم كالحة أنها ما تندى، وعيونكم ضيّقة لأن المآقي جافةٌ، فليس كل دمعٍ دمعٌ، وليست الحياة زمنًا يمضيه واحدنا على امتداد تاريخَيْن، لنا في التفسير قولٌ ولنا على التفسير خروجٌ، ولنا عن التفسير تأويل، ولنا عن القول الأول رأي، لنا تفكيكنا الذي لا يُداهن المعنى البيروقراطيّ، لنا عنفواننا الذي لا نقبل أن تُخمد جذوته، ولنا الجمرة التي تتقد تحت الصدور ساعيةً للهواء أن تحيا، ولنا النار التتوقّد في الأجسام أن تلتهب، إن هذا السعير له حقٌّ أن يحرق كل الماضي الأسن، كل الماضي الخرب، كل الماضي الدمار، كل الماضي الضلال، لا لسنا لكم، نحن لنا، هكذا يقول المختلفون، أولئك الذين اختاروا أن يعيشوا، رافضين أن يتمّ تفسيرهم، غير عابئين بأحكام الآخر، أولئك الذين لا يبصقون في وجه الريح، أولئك الذين يركضون مع الريح، أولئك الذين لهم في المصائر، مصائرهم، وجهة نظر أخرى، أنا لست شخصيّةً في حكاية ما، أنا الحكاية، وأنا الكاتب وأنا الراوي، أصنعني كما أرى، وأرفض الصيرورة وليس لي من السيرورة مفر، لم أكُ خلقًا ابتدعه الراوي ولن أكون، ولو حاربتني المتون كلها والإسنادات جميعها والأقلام عن بكرة حبرها فلسوف أخرج من الصفحات والبرديّ، أفتكّ من الذاكرة فأركن لي، أنا لست لكم أنا لي، ولي في المصير، مصيري، وجهة نظر أخرى، ولي في حكايتي تأويل مختلف، ولي في القول قولي، ولي في الاصطلاح اضطلاعٌ، فأنا المكوّن للمفهوم وأنا المبدع لي، فلست مصطَلحًا بل سأكون حتى نظريّة، ولست فرضية بل حقيقة، وحقيقة تزعج الواهمين، تزعج الساكنين، تزعج الراقدين، تزعج الأموات وتربك الأشباح وتبصق في وجه التفسير، فمن أنتم؟ تاريخ بالٍ لشدِّ ما هو دون انعطافات لم يكلف أحد نفسه تدوينه، ما تملكون تاريخًا، فتاريخكم هو فكرة الدين، فكرة الآخر، فكرة السلطة فكرة الآخر، فكرة الآخر الآخر، حين تتربّصون في أنفسكم تتروّعون أنكم تجهلون من أنتم، وما تملكون قدرة على رسم أنفسكم، وتخشون من أنفسكم، تفرّون إلى الكل؛ لأنكم لا تفهمون الجزء، ولا تملكون تاريخًا، فأسماؤكم متشابهة، وسحناتكم متماثلة، ونفوسكم عفنة من كثرة الرجوع، وظلالكم ظلال غيركم، والنور ألد أعدائكم، والعمى هو ما تفخرون منابزين أهل البصيرة أنهم يرون، هكذا أنتم، في صلب إعاقتكم تبتهلون بقاءها، وتستهزئون بالذين أبصروا، بالذين يبصرون، أولئك الذين كرهوا الظلمة لأنها مرادف النكرة، فمن أنتم؟ تستعمرون حيّزًا من المكان ما كان لكم، تنتشرون في الزمان وهو كارهكم، والأرض حتى تقرف إذ تبتلعكم، فمن أنتم؟ تستثمرون في الغيب، مطمئنّين في الظلال مطمئنّين للضلال خائفين من الهدى مختبئين عن الشمس، لغتكم أثر، وكلامكم اندثر، تلتحفون الرثاء وتشفقون من الأبعاد، تزعجكم النغمة، تتأخرون عن الوتر، تتلمّسون الشِّعر وترتعدون من الأرجوزة، عموديّين ما تعرفون الأفق، ليس لكم بِشارة إذ أنتم النذير، ليس منكم بِشارة إذ أنتم النذير، دعوا المختلفين يحيَوا حياتهم، دعوهم يلبسون ثوب الحياة آمنين، حتى النعاس منكم يتغشّاهم خائفين، حتى الحلم يضمحّل لدى صحوتهم غير مصدّقين، والخيال خاسئٌ في ضيقه من الحدود، والجحيم الذي تعدون أنتم، أنتم الجحيم الذي تعدون، والجنة طالما هي ليست لكم، فتريدون منهم إلى منقلبكم ينقلبون، ماء الحياة مُرٌّ في أفواهكم، والنسيم ريح بسببكم، والسماء بعيدة لأنكم، والأرض طريّة بأنكم، والحياة ضيّقة، ضيّقة مثلكم، والموت مخيف، مخيف لجهلكم، والحبَّ تجهلون، الحبَّ تجهلون.

الطفولة الحديثة / السعودية أنموذجًا

آخر أوجه العبودية المُمارسة على الأطفال هي إجبارهم على الانتظام في المدارس، فبينما كان الوالدون عند أول النشأة الإنسانية يتوسلون بأبنائهم في معاونتهم على الصيد كمفترس إضافيّ ثم التحول من هذا إلى تشيّئهم معاول في العمل على الزراعة إلى إرهاق طاقاتهم وأيديهم في المصانع، ثم جاءت هذه الطفولة الحديثة، طفولة المدارس، يقول ستيرنز في كتابه الطفولة في التاريخ العالمي أن الوالدين ما عادوا يتوسّلون بأبنائهم لتعلّم كيفية العيش مستخدمينهم كأداة تردف اقتصاد الأسرة إنما أصبح الأبناء يدخلون المدارس حتى يستطيعون بعد ما يقارب الاثني عشرة سنة تعليمية من حمل وزرهم الحياتي بأنفسهم وإن كان هذا غير مُطبّقٍ في كل دول العالم وكل الثقافات التربويّة فما زال الأطفال في بعض الدول والثقافات يُصنع معهم ما صُنع مع أقرانهم ممن عاشوا على وجه البسيطة في أول الحياة، وأعود فأقول إن كان هؤلاء الأطفال مصدرًا ماليّاً للعائلة ما يمنح الوالدين الراحة من العمل فهذا إذن يفضُل على فقط أن يكونوا كافّين أنفسهم، ممّا يعني ردّ المعروف الذي طال إعطاؤه طالما أن الطفل قد صار كاسبًا ويستطيع أن يجني المالَ.
إنني أعلم اللغة الإنجليزية منذ سبع سنين، ولا بد من أن أتقاطع في كل سنة دراسية أو على الأقل في كل  فصل دراسي مع طلاب هم فعلًا موجودون في غرفة الصف كاسمٍ ورقم معدود يشغل حيّزًا هو في الحقيقة أقل حقّاً به من غيره ويستنزف مالًا من الحكومة كان أدعى أن يُصرف في قضيّة ناجحة، لن أدّعي أنني حتى حاولت الوصول إليهم بصورة تربوية أو غيرها إذ لكثرتهم أفشل في إدراكهم كلهم، فإن عملت على واحدهم فإنني لا بد مقصّرٌ في حق آخر وهكذا، لذلك أتّبع مبدأ التعليم للكل ومَن يواجه صعوبة في التعلّم فليجد لنفسه حلّاً أو ليجد والدوه له حلّاً أو ليتمّ تحويله إلى المرشد الطلابي الذي هو في الحقيقة لا يعمل وفقًا لاسمه، بل هو لا يعمل مطلقًا حتى، وإن كان يكسب من موقعه معرفة حميميّة عن أحوال الطلاب الشخصية والأسرية ما يمكّنه أن يصنع منها دراسة أو ينتج له خط سردٍ أدبي خاص يمكّنه من الشهرة والسباحة في عالم الأدب، ما يذكرني -وإن خرجت عن إطار ما أحاول قوله- بما قاله الروائي إيكو أنه يكتب في ذهنه سرديّات عن الأشخاص الذين يقرأ أسماءهم في دليل الهاتف، وعودًا إلى ما أقوم به من عمل تجاه هذا العدد الكبير من الطلاب وإدراكي الحادث من خلال زيارتي لغرفة كل صف أربع مرات في الأسبوع على الأقل فإنني أعرف أي الطلاب يحتاج زيارة للمرشد الطلابي، كنت أقوم بتحويل أولئك الذين يُعرضون عن الدرس إما بنوم أو فغر فاه أو إساءة سلوك وشغب، لكنني مع كل الحالات التي حوّلت ما وجدت طبّاً فيهم يأخذ مجراه، فالسوء باقٍ والإهمال متزايدٌ.
بعيدًا عمّا يمكن أن تكون الأسباب فيما هم عليه كائنون ومحاولة للتقرّب من فكرة مفادها أن العلم ليس للجميع، بمعنى أنه يمكن أن يتوقف هؤلاء الأطفال عن الذهاب إلى المدرسة، فإنني أعتقد أن الخسارة قيامًا بذلك في الحقيقة لا تُذكر افتراضًا أنهم قد تعلّموا القراءة والكتابة، إذن يمكنني أن أقول أن ما يعقب السنة الدراسية التاسعة من المفروض أن يكون اختبارًا حقيقيّاً ورقيّاً للطالب غير الحافل بالتعلّم خاصة للخروج بنتائج تفيدنا عن صلاحيّته في إكمال الانخراط في المدرسة، ربما ومن خلال هذا العمل نستطيع أن ننقذ الكثير من هؤلاء الأطفال إذ يجدون أنفسهم في بيئات مختلفة عما كان يحدث من انخراط تعليمي نظري والانتقال إلى تعليم تطبيقي، ولا خزي يجرؤ واحدنا أن يعتقد أن هؤلاء الأطفال موسومين به، فالذكاءات متعدّدة، وأعتقد أن أهم مثال على الذكاء الجسماني هم الرياضيّون الذين نراهم الآن يجنون الملاين بأجسادهم. ولا مجال للحديث عن التكنوقراطيّة في هذا الموضع من المقال، إذ ما كنت إلا ضاربًا مثلًا.
إن الاكتئاب الذي يصاب به هؤلاء الأطفال يجب وأن يتمّ ذكره علانيةً حتى يتألم المجتمع الذي يحاول تغييب هذه الحقيقة عن وعيه وإغماض بصره عن إدراكه فيجد حلّاً لجيله القادم الذي إذا استمرّ به الحال مطروقًا على رأسه في غرف الصف فسيصبح إنسانًا مُشوّهاً وعاهته قد تصبح مستديمة، وما أتحدث عنه هنا هو العاهة النفسية التي قد يلقاها الطالب لكثرة ما يُساء فهمه وتُأوّل رغباته إلى تبطّل وكسل. سألت الطلاب مرة هل تعرفون حبوب دواء بروزاك فجاوبوا بالنفي، فقلت لهم إنها حبوبٌ مضادة للاكتئاب وإنني أفكّر في تناولها بسببكم، فانطلق واحدهم قائلًا بل أعطناها فنحن مَن بحاجتها، ربما يمرّ هذا الحديث مرّ السحاب إذا ما تمّ أخذه بصورة فكاهيّة بحتة، لكنني أجد فيه دلائل مخيفة على ما يشعر به هؤلاء الأطفال من ألم لما يحدث معهم في حياتهم.
إن هذا التعداد المتضخم من الولادة لأطفال أستطيع أن أقول أنهم مواجهون حياةً مؤلمة جدّاً بينما بالإمكان تخفيف هذا الألم في فهم ماذا يريدون ودراسة رغباتهم بجديّة كافية كي لا يكون تلكؤهم أمكر من حرص والديهم عليهم -هو أمرٌ غيرُ مُبرّر وفعلُ غير ذي عقل؛ إذ يحدث مع الوالدين ما يحدث معي أنا كمعلم، إن أطفال المجتمع يعانون من ثقافة تصفّق للفحولة في مضمار عدد الأطفال، وبالطريقة هذه تنشأ عبوديّة لا منتهية ابتداءً من تأطير البر الوالدي بالامتثال إلى الطاعة اللامتناهية كنوع من اللئامة الإنسانية الشهيرة والاستثمار المستقبلي الكسول كما تعوّد الوالدون من الثقافة إذ يستثمرون في الغيب أيضًا بأسخف الوسائل الممكنة وانتهاءً بعدد كبير من الأطفال الذين يعانون مأزقًا وجوديّاً، أتسائل هل واجه الوالدين يومًا سؤالٌ طرحه أطفالهم أن لماذا قررتم إنجابنا! هذا ما يدعوني الآن أن أتذكر ما قاله الخيّام إذ قال في رباعيّاته لبست ثوب العيش لم أُستشر. إنني أعرف الإجابة إنما كنت أتسائل عنها، ولن أستطيع في أكثر الأحوال أن أحيد بأحد عن وجهة النظر هذه ولن أقولها لأنني أعرف أن الجميع يعرفها، وإن تعدّدت.
إن تواجد أمثال هؤلاء الأطفال داخل أسوار المدارس هو استنزاف طاقاتيّ، استهلاكٌ لطاقة المعلم إذ تصبح مسألة ضبط الطلاب في انتظام سلوكي قضية تستهلك جزءًا من جهده الذهني، وإن كان الكثير من المعلمين خاصة بعد انقضاء السنيّ الأولى يتجاوزون هذه المشكلة إذ تُصقل شخصياتهم الآمرة والقادرة على الدوزنة، إنما ما يزال بين ظهرانينا مَن تبقى معه المشكلة غير قادر على حلّها، وبهذا فإن الجهد الذهني المبذول على أمر تافه يقلّل من جودة كيفية تقديم الدرس، وعلى سبيل المثال فكلما قال لي طالب أن زميله قام برمي قلمه بعيدًا أجدني أَسهمُ متوقفًا عن التقديم مادّاً نظري بكل اشمئزاز إلى الاثنين، قد يدّعي البعض أن هذه مشلكة سخيفة لا تستحق أن يغضب المعلم بسببها أو يشتكي حتى منها، إنما هي تُعتبر ضربةٌ قاصمة لتدفّق المعلم في تربويّته ومنهجيته، وحتى أيسّر الأمر في توضيح وجهة النظر فحاول مرة أن تمزح مع أحدهم أنك ستعترضه بجسمك وهو يمشي مسرعًا وانظر كيف سيتوقّف، ودعوني أيضًا أقول أنها عملية إبداعية تتطلب استدعاءَ مواد عقلية كثيرة بمعنى آخر أيضًا هل حاولت مرة أن تُقلق رسّامًا بينما هو يلمس بريشته القماش! بالتأكيد فإن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فيصبح وكيل المدرسة المُختص بالشؤون الطلابية أيضًا منُوطًا بمثل هذه السخافات وبذلك هو أيضًا تتعرّض طاقته للاستنزاف، وهكذا. قد يتحسّن وضع طالب وآخر بعد لأي، لكن ليس الجميع، فتنتهي عملية الضبط بالفصل من المدرسة، هنا أعتقد أن الوالدين لا بد وأن يعرفوا ماهيّة مشلكة طفلهم، إنني أتحدّث هنا تاركًا التطرّق إلى بعض زملاء العلم غير المتعاونين، وتلك لعَمري قضية أخرى!
قد أكون تحدّثت عن عملي كمعلم بكثرة قد تبدو للبعض غير مُبررة وبعيدة عن فحوى المسألة التي أناقش إنما ما أضفته هو في الحقيقة في صميم الموضوع إذ أشرح ماذا يحدث مع تبنّي الطفولة الحديثة في آخر أطوارها، وإن كنت أشك تمامًا في معرفة الوالدين في المجتمع أطوار الطفولة، هذا إن كانوا -ومنذ البدء- يملكون تصوّرًا تربويّاً لممارسته مع أطفالهم قبل أو بعد أن يُولدوا.
المدرسة ليست لجميع الأطفال.

اربعمائة وخمسين يومًا من الحُب.

مدونة هيا

أربعمائة وخمسين يومًا من العطاء المعنوي والحصاد المُجزي.

أكتب مُودعةً وظيفتي التي ماكنتُ يومًا أطمح إليها, وامتهنتها في محض صدفة؛ من عاطلة لمدة ثلاث أسابيع تتناول وجبة إفطارها في ساعة مبكرة إلى اتصال هاتفي أنهى وجبة الافطار وإذا بي معلمةللصف الخامس في العاشرة من ذات الصباح!

مجتمع المدرسة الذي عشتُ أمقته في حديث المعلمات, وظيفة تُشبه مقاعد الحرير المريحة والكثير من تفاهات الفتيات بمختلف مراحلهن!

أما المحيطين بي فهتفت أصواتهم بالتهاني والتبريكات وجُملة: لحسن  حظك, وظيفة سهلة وإجازات لا تُعد ولا تحصى!

في شهوري الثلاث الأولى والتي توافق الفصل الدراسي الثاني, كانت الأصعب والأكثر إرهاقًا.. لم يعد بعدها التدريس شيئًا سهل الممارسة وعاديًا, ولا المعلمات نساء محظوظات, انكشف غطاء الهيكلالمدرسي ولم يعد في نفس الصورة النمطية المتداولة عند الآخرين.

ثلاثة أشهر حاولتُ فيها أن أجدني ما بين الفتاة الطائشة والمعلمة القدوة حتى ضعتُ في أوامر المشرفة وتعليمات الوكيلة وسجلات المتابعة والتحاضير اليومية وخطط الضعف وجدولة المنهج وتصحيح كُتب, دفاتر, أوراق…

View original post 361 كلمة أخرى

التكنولوجيا في حياة الطلاب

“وهكذا يجد الإنسان الحديث أنه يزداد تقدماً وهيمنة على العالم وإنتاجاً لمزيد من السلع، ولكنه يجد نفسه نتيجة ذلك محاطاً بعالم من الأشياء التي تقهره وتهيمن عليه على حاجاته ورغبـاته لأنه لا يمكـنه اسـتيعابها ولا السـيطرة عــلى تراكمها أو تطوُّرها. فالتكنولوجيا تخلق منتجات لا ضرورة لها لتلبي احتياجات غير طبيعية، فهي نتيجة تطوُّر النشاط التكنولوجي في مسار مستقل، ويُولِّد العلم معرفةً لا ضرورة لها، معرفة لا قيمة متعينة لها، فهي نتيجة التطور المستقل للنشاط العلمي. وبالتدريج، تتشابك الأشياء الحضارية والمفاهيم التكنولوجية والعلمية وتصبح عالماً مستقلاًّ قائماً بذاته يفـقد صلته بالتدريـج بذات الإنسـان ورغـباته الأساسية. وهكذا، فرغم أن هذه الأشكال الحضارية ظهرت لتكون بمنزلة مكان الاستقرار الإنساني، فإنها تصبح سجناً له ( «سجن المستقبل» على حد قول زيميل). ولذا، يقول بعض مؤرخي علم الاجتماع الغربي إن زيميل هو مؤسس سوسيولوجيا ما بعد الحداثة، إذ أدرك أنها حضارة الوفرة وفائض السلع التي تفوق مقدرة الإنسان على هضمها واستيعابها، وأنها حضارة تطمح إلى التحكم في الواقع وتنتهي إلى العكس.” (*عبدالوهاب المسيري – في معرض حديثه عن جورج زيميل).
لست هنا في مقام التحدث عن تحفظي إزاء التكنولوجيا خاصة في إطار إنتاجها لمواقع أو تطبيقات التواصل الاجتماعي إنما أدلف بهذا الاقتباس أعلاه لأنني أريد أن أكتب أن التكنولوجيا أصبحت عاملًا هدّامًا لعقول الطلاب هذا إن آمنّا منذ البدء أنها عاملًا بنّاءً.
الكثير من الزملاء المعلمين يشكون ضعف مستوى الطلاب الدراسي وتشتّتهم وعدم تماسك المعرفة لديهم بل عدم وجود أرض مشتركة بينهم وبين المدرسة وبين عدد كبير من المواد الدراسية، وأنا أحد هؤلاء الزملاء، إلا أنني أجد أن طلابي -على الأقل بالنسبة لي- لا بأس بهم وإن كنت لا زلت في كل الأحوال أتوقع منهم الأفضل، حتى أولئك الذين هم موجودون بالاسم فقط*. (*إشارة لتدوينة سابقة.)
في مَعرض حديث من أحاديثي الكثيرة مع طلابي اكتشفت أنهم مشتعلين جنسيّاً، وقد يبدو هذا الكلام غريبًا أن كيف يمكن لي أن أعرف ذلك إذ ربما الآن قد زرعت الشكوك لديكم عن المواضيع التي نتحدث فيها، وأقول لكم أنني في هامش الحصص الدراسية أجلس معهم أفتح كل المواضيع وأضعها أمامهم للنقاش سوى بعض المواضيع المحظورة بطبيعة الحال، كالسياسة والدين والجنس، ومَن هم حتى أحاورهم في مثل هذه الأمور، إذ لا تتعدى علاقتي معهم مساحة الفصل، خاصة وأنني لا أحاول التماس معهم خارجه إطلاقًا ما لم تكن هناك بادرة ما منهم، إضافة إلى أنني وعلى مستوى المواضيع السابقة الذكر فإنني أعرف أن المقام والعلاقة المهنية والعمر الذي هم فيه لا يتناسب إطلاقًا ومثل هذه الأحاديث. عمومًا وحتى لا أنجرف أكثر عن المسألة، فإن طبيعة كل حوار هو أن يستطرد المتحاورون فيه إلى مواضيع مختلفة تمامًا عن فحوى ما تم ابتداء الحوار به، لم يكن هناك من حديث جنسي معهم أبدًا، ولكنني أرى في مطالعتي للحوارات التي تصبح ثنائية وأنا لست ضمنها أن هناك تبادلٌ لأسماء فنانات وممثلات بل وحتى مذيعات، أهبّ فورًا أتسائل أن كيف عرفتموا هذه الأسماء، والمضحك أن بعض هذه الأسماء هي أسماء لا أعرفها، فأجد أن إجابتهم غالبًا تكون مشيرةً إلى الجوال وتطبيقاته: سناپ تشات، تويتر، واتس آپ وغيرها من التطبيقات الأخرى.
إن الطلاب الذين أعلم هم ما بين الرابع والسادس عشرة من العمر، بمعنى أنهم في الثالث متوسط، والمعروف أن واحدنا في عمره هذا يكون في خضمّ استكشافه لأقاليم جسمه، فالتغيرات تحدث معه على مستوى الجسم فتصبح بعد ذلك وبتزامن على مستوى النفس، إن ما يحدث معهم بشكل رئيس هو اكتشاف للنشوة أو الفحولة أو سمّوها ما تسمّونها، فيبدو أنني لن أكون فالحًا في تسميتها، تأتي مثل هذه الإنتاجات التكنولوجيّة الوافرة بما يمكن له أن يشبع غرائزهم وإن كان إشباعًا يثير الشفقة، إذ هو في الحقيقة يشطرهم على أنفسهم فيثيرهم عن كل ما يمكن أن يكون ذات أهميّة، والمهم في حياتهم هذه كثير، وإن كنت لا أحب أن أعدّد إنما سأكتب أن المهم: تحسين الشخصية، تطوير الذات، التفوق في الدراسة أو على الأقل السريان فيها بالشكل الطبيعي، اكتشاف الهوايات التعرّف على النفس وإلى آخره.
إن هؤلاء الأطفال مُبتَلَوْن بمجتمع بدائيٍّ في التربية، مجتمع مَظاهريّ، إن كانت التسمية سليمة، أجد أنهم يأتون من عائلات لا يملك فيها واحدهم فرقًا في السن عن أخيه أو أخته يربو أكثر من ثلاث سنوات في أفضل الأحوال، هنا تصبح التربية أصعب؛ إذ كلما قل فرق السنين ما بين الأبناء ضعفت القدرة على تربيتهم، على الأقل التربية الأفضل، وإن كانت التربية الأفضل هي مفهوم فضفاض كلٌ منا يفهمه وفقًا لقيَمه الخاصة. ثم إن جميع الطلاب يملكون جوالات، وهذا قد أصبح سياقًا اجتماعيّاً طبيعيّاً جدّاً، على الرغم من الشكوى المستمرة من قبل المواطنين من أن “الراتب ما يكفي الحاجة”، هذا فضلًا عن تملّك عدد لا بأس به منهم لسيّارات، كيف والحال هذه يجد الطالب متّسعًا لنفسه وذاته ودراسته والمُلهيات كثيرة والمشكلة أنه مسموحٌ بها! أتذكر أحد الطلاب الذين درست قبل عامين، كان الولد ابنًا لضابط وأكاديميّة، وكان لا يملك جوالًا، سألته ألا تضيق بحالك هذه، فقال إطلاقًا. إن الطالب ذاك كان ممتازًا في كل المواد والجدير بالذكر أنه كان جيدًا اجتماعيّاً فلم يؤخره هذا الأمر عن اختلاطه الطبيعي بزملائه.
كنت أنوي أن أتحدث أكثر وأقوم بتحليل أعمق لكنني ولأؤكد على ما أقول فقد ظهرت kerry washington على شاشة التلفزيون أمامي وما عدت أستطيع التركيز.

طالبي مرسلوت

إن أكثر ما يدور في ذهني الآن من تساؤل وبعد استئناف قراءتي لكتاب اللامنتمي -وقد كانت القراءة التي انتهيت منها متفحصةً ومجهدة- هو هل يوجد لدي طالبٌ لامنتمٍ. إنني في الحقيقة لا أدري، ولم أفكر من قبل قراءتي هذا الكتاب فيما إن كنت قد درّست طالبًا لا منتمٍ، لكنني وبينما أنا أكتب هذه التدوينة أتذكر الآن أحد الطلاب الذين درست السنة الماضية، كان ذاك الطالب يثير فضولي، فوجهه حقًا كما يُقال “پوكر فايس” أي كوجه لاعب البوكر الذي يخفي كل شعور يمكن أن يطرأ على سحنته كي لا يعرف خصومه ما يمكن أن يحمل من ورق، لم أكن أستطيع حقًا معرفة ما إن كان يريد أن يبتسم أو يضحك أو يغضب أو يتأفف، لم أكن أستطيع أن أفسر ما يكتم صدره من مشاعر أو انفعالات، عند اقتراب نهاية الفصل الدراسي الأول بدأ الطالب يتقاطع معي طلبًا للدرجات، لاحظت لدى أول وهلة أنه يتجنب الاتصال البصري، وكلما بحثت عن عينيه والتقطتهما بعد لأي أجده بمجرد ما يدرك أنني أتصل معه بصريّاً يهرب بهما مرة أخرى، فأجدني كأنما أتحدث إلى شخص أعمى يفتح عينيه محدّقًا في الفراغ.
تزامَنَت بالصدفة مع تلك الفترة قراءتي لكتاب مختلف لهناء حجازي، كانت تتحدث فيه حجازي عن طفلها المصاب بالتوحد، وكيف أن الطبيبة التي شخصت الطفل بهذا المرض استدلت إلى ما يشكو منه من تعب مباشرة من خلال ملاحظتها أنه يهرب من التواصل البصري، عندها تذكرت طالبي فخمنت أن يكون مصابًا بمثل ما أصيب به طفل حجازي، أخبرت المرشد إذ لطالما كان يطلبني أخبار الطالب دراسيّاً مُهيبًا به أن يكون عونًا فنستدرك ما يمكن أن يكون الولد مُصابًا به، لكنه وبكل الثقة التي يمتكلها المُفتون عادةً قال لي: إطلاقًا، إن الطالب ليس مُصابًا بالتوحد أو حتى بأي طيفٍ من أطيافه! ناشدته أن يحرص على إطلاع والد الطالب بما يمكن أن يكون الولد به مُصابًا، إنما أشك أنه قد فعل.
ما أريد الإشارة إليه، هو أن طالبي ذاك قد لا يكون حقّاً مُصابًا بالتوحد إنما قد يكون لامنتمٍ، وما أفهمه من شخصية اللامنتمي هو أنه شخص غير مكترث على الأقل وفقًا لشخصية مرسلوت التي رسمها ألبير كامو في رواية الغريب وهذا بالطبع يناقض ما كان قد أتاني الطالب يحدثني من أجله عندما تقاطع معي يطلب العون مني في الدرجات، ولكنني موقنٌ أنه ما أتى إلا بعد إلحاح والده عليه.
إن هذا غيضٌ من فيض كما درجت هذه العبارة على ألسن الناس، إنما أحب أن أقول لكل معلم يحفل بأمر الأجيال القادمة ويفهم أهميّته كمعلم وحساسية مهنته أنِ استمع لطلابك، فبمجرد الاستماع لهم تعرف عنهم الكثير وتقدم لهم معروفًا إذ إنني أعتقد وبكل أسف أن أهليهم لا يتحدثون معهم وإليهم كفايةً وهم كذلك يصنعون، وإن فعلوا لما كان الحوار مفتوح الأقاليم على كل المواضيع كما أعتقد خاصة تلك التي تطّوّف في رؤوسهم كناشئة.

RHINOs

أعتقد أن أقرب الطلاب إلى قلوب المعلمين هم أولئك الذين يستوون مع الماصة والكرسي في صمتهم وجمودهم، خاصةً حين يكون مزاج فصلٍ ما عامةً مزاجًا نشطًا حدَّ الإزعاج والتحكّم في تسييره صعبٌ، إنهم حالةٌ من التتلمذ غريبة، أجدهم “لا منتمين” كما يقدم لنا كولن ولسون شخصية اللامنتمي. وكم أتمنى الآن لو أنني قمت عن كسلي وأكملت قراءة كتابه حتى أكون قادرًا على الحديث بشكلٍ موسّع عن هذه الشخصية لدى بعض الأفراد/الطلاب.

عمر هو أحد طلابي في ثالث متوسط، أقدّره لأنني أجد أن الحكمة التي يقولها صديقي: من خيرك كفاية شرّك. هي معادلة مطلقة النتيجة عندما يتم إسقاطها على الطلاب، ثم إن تواجد عمر في فصل ٢/٣ الفصل المزعج بالنسبة لي يجعله ذا مكانة عالية لديّ. لكنني وعلى الرغم من هذا أتسائل عن مدى تعلّمه للغة الإنجليزية على لأقل بينما هو طالب لديّ وعمّا إن كنت أصل إليه بشخصيّتي أو شرحي للدروس.

أمثال عمر من الطلاب لابد وأن يكون لدي واحد منهم عند كل عام دراسيّ، في البحوث التربويّة تمّت تسمية عمر ومَن يماثله في حالة الصمت واللاانتماء بـ/راينو(ز). والكلمة التي هي عنوان التدوينة اختصار للكلمات الإنجليزية التالية:

Really Here In Name Only / متواجدون هنا بالاسم فقط

جيري أوكلي الباحث فيما يخص راينو(ز) خرج بعد بحثه في قضيّتهم بعدّة نتائج، وقد ترجمت أدناه ما أمكن لي:

“إن راينو(ز) طلاب جديرون بالاهتمام وهم ظاهرة مُعتبرة، وكان من المُحقّق التعرّف عليهم من خلال الملاحظة، إن هؤلاء الصغار المتأخرون عن الإنجاز عانوا بشكل فادح في بيئة تعليميّة فاشلة لأسباب:

  • كانوا طلابًا مجهولين في فصل مزعج، تلقوا اهتمامًا قليلًا من المعلم خاصة عندما بدأ الطلاب النشطون بشكل مزعج بالسيطرة على الفصل وتمّ التسامح معهم على الرغم من هذا.

  • كانوا ضجرين بسبب أدوات التعليم غير المُحفزة إضافة إلى أن هذا حرمهم الفرصة في أن يعبّروا عمّا يمكن أن يكون لديهم من إبداع.

  • كانت ردة فعلهم جيدة للمعلمين الذين أبدوا بهم اهتمامًا وخصصّوا لهم وقتًا للمساعدة، إنما صدُّوا المعلمين الآخرين الذين شملوهم مع السريان المعتاد للتعليم والشرح.

  • كانوا أفرادًا في منظمة كبيرة يجدون صعوبة بالغة في جذب الانتباه.

  • كانوا يجهلون الفرص الوظيفية على الرغم من أنهم يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم لابد وأن يتخرجوا بمعدلات جيّدة كي يحصلوا على فرص عمل جيّدة بالمقابل.

إن الطرق التقليدية التي استخدمتها المدرسة في التعرف عليهم لم تكن ذات فائدة، إنما كان من الممكن القيام باستخدام استراتيجيّات مختلفة لكل طالب على حِدة.”

لم يكن بحث أوكلي مختصًا بالمرحلة المتوسطة، خاصة وأنه تحدث عن الفرص الوظيفية، إنما نتائجه على كل حال يمكن توخّيها عند النظر وملاحظة هؤلاء اللامنتمين الصغار.

يقودني هذا الموضوع إلى مقولةٍ أحب أن تبقى دائمًا في ذهني، وأحرص على تطبيقها بشكلٍ مستمر كلما تواجدت في فصل، وهي باللغة الإنجليزية كالتالي:
wear their heart on their sleeve، وإن صحّت ترجمتها فإنها تكون: يرتدون قلوبهم على معاصمهم، ما تعنيه الجملة هو أنّ واحدنا لا يخفي ما يعتمل في صدره ويبدو على وجهه كل شعور.

الفصل ليس مكانًا لحفلةٍ تنكريّة

أعتقد أنني بصيغة أو بأخرى أصبح صديقًا للطلاب، على الرغم من أن هذا ليس أمرًا يسيرٌ الوصول إليه، وحقيقةً لست أخطو وفقًا لخطة معيّنة كي أصبح صاحبًا لهم، إنما تُبنى هذه العلاقة بشكل عشوائي إن أصبت في وصفها أو بشكل عفوي. يصبح دوري هنا كمعلمٍ أصعب؛ إذ لا يملك هؤلاء الصغار خبرة التصرّف عند كل مقام، فإنهم في دروس عدة يعتقدون أنني سأجلس وأتحدث إليهم وأستمع لهم ناسين مهمّتي الرئيسيّة أنني معلم لغة إنجليزية، فأُضطرّ إذ هذا إلى محاولة تهدئتهم والأخذ بهم أخذًا إلى الدرس، كما لا تنقصهم الخبرة الكافية في التلكُّؤ محاولين بطريقة أو بأخرى أن يُثنوني عمّا أنا هنا في هذا الفصل من أجله، أيضًا فإن أحد مخاطر هذا الأمر -أي نقل العلاقة الهرميّة مؤقتًا إلى صداقة- هو أن بعض الطلاب يعتقد أن الكلام في كل شيءٍ مُباح وإنه لن تكون هناك أحكامٌ يتّبعها، إنما أصبحت من الخبرة في أن أعرف كيف أن أكبح جماح هذا التصرّف المتهوّر بعدّة طرقٍ تفرضها اللحظة وليس هنالك طريقة بعينها، فلو قلت لهم على سبيل المثال أنْ “تذكروا أنني لا زلت المعلم” فإن هذا لن يعني لهم سوى الهراء إضافة إلى تفسيره لمعنى أشد خطورة ألا وهو ضعف في الشخصية، تكفي النظرة الحازمة المُوجهة والصمت لبرهة إلى التلميذ المعنيّ كي يفهم هو والبقية أن ما يحدث الآن يحدث ضمن شروط يجب على الجميع ألا يتخطاها، وعادةً فإن ما يقود إلى هذه اللحظة هو فقدي للسيطرة على منع الحديث الجماعي إذ تتسنّى الفرصة لبعض التلاميذ أن يتحدثوا إلى بعضهم في مواضيع لا يجب أن يقولوها عند المعلم فتأخذهم الحماسة إلى إخباري بها، لذا فإنه من المهم أن يجتمع الفصل مهما كان المتحدث الواحد كأذنٍ واحدة له، إن وجود أفواه كثيرة ناطقة لا تأتي بخير داخل الفصل إطلاقًا.
سأقتبس هنا كلامًا قاله علي حرب في كتابه خطاب الهوية، قد يكون الاقتباس للوهلة الأولى غير مرتبطٍ بما أريد أن أقول ولكنني أجد من الضروري أن أكتب كلامه كاملًا حتى يتضح المعنى تمامًا جرّاء السياق ولابد أن أشير إلى أن حرب هنا يتحدّث عن نفسه بضمير الغائب: “كذلك كان حاله مع طلابه: لقد تبيّن له إذ استرجع تجربته في التدريس، أن درس الفلسفة لم يكن عقلًا خالصًا، وإن كان يزعم أنه ينطبق باسم العقل، أو يتعلق بالمفاضلة بين الفكر القديم والفكر الحديث. فقد كانت معاني الأشياء التي يتحدّث عنها كالتقدم والعلم والعقل ذاته ترتدي طابع البداهة فيما وراء بداهة الذهن. وكان يتعامل مع كثير من المفاهيم بوصفها مُسلَّمات وهي ليست كذلك. وفي كثير من الحالات كان الجدل يدور على نفسه بما يشبه تحصيل الحاصل. إذ كانت لعبة الاستدلال أداةً للعبة السلطة. وكم شعر بالحرج الشديد عندما رفع ذات مرةٍ أحد طلابه الكلفة بينهما، فخاطبه باسمه هكذا من دون لقبه العلمي، وكان يومئذٍ يدعو إلى المساواة والثورة على التراتب والسلطويّة. لقد أحس بأنه يقفد مهابته ويتجرد من سلاحه. هكذا إذ يستحضر تجربته تلك، يدرك أن صلاته بطلابه لم تكن محكومةً بالعقل، على الأقل بالعقل كما يفهمه هو وكما يستخدمه، ويتبدّى له أن الصِّلات بين البشر لا تُبنى على العقل.”
في آخر حديث قمت به مع الطلاب كان في فصلٍ يكثر فيه عدد الطلاب الممتازين على غيرهم، كشف لي أحد هؤلاء الطلاب أنه في إحدى المواد لدى إحدى اللجان من اختبارات نهاية منتصف الترم كان الغش يحتفل بأكبر ممارسة له إذ تم تبادل أوراق الأسئلة مُجابةً عليها ما بين طلابٍ نجيبين وآخرين كُسالى، إضافة إلى الحوارات الجسديّة التي تتم بينهم ولا يمكن للمعلم ربما أن يكشفها أو يمنعها، فمثلًا وخاصة لدى أسئلة الصح والخطأ فإنهم يملكون اتفاقًا مُسبقًا ويكون المتفقان متخذان مكانًا خلف بعضهما، فحين يضرب واحدهما بقدمه اليمنى كرسيَّ أو طاولة زميله فإن الإجابة على الفقرة الأولى صح أما حين يضرب برجله اليسرى فإن الإجابة خطأ، وهكذا حتى ينقل لزميله كل الإجابات لهذا السؤال، إنهم من التلكُّؤ إذ بين كل ضربةٍ وأخرى ثوانٍ معيّنة ينتظر فيها الطالبُ أن يفهم زميله الإجابة المُوحى بها ويكتبها.
يبدو لي أن مشاعر الطلاب خاصة في المرحلة التي أعلّم وهي مرحلة المتوسطة مرنةٌ جدًا إذ هم على استعدادٍ تام في أن يتبسّموا في وجهك لحظةً ثم في اللحظة التي تليها مباشرة يعبسون. لذا فإن علاقة الصداقة معهم لها مساوئها إنما هي تجربة تستحق أن يخبرها واحدنا كمعلم كي يفهم الجيل الذي يجلس أمامه ويدرك أي العقول قادمة إلى المجتمع وما هي الأمور التي تشغل تفكيرهم، ولعلّ بهذا يكسب نفسًا تحب ما يختص به المعلم من مادة فيبدع بشكل لم يكن هو نفسه -أي الطالب- قد توقع حدوثه، وفي كل الأحوال يبقى التعليم والتعلم هما أصل العلاقة والهدف الرئيس لحدوث هذا الجمع.
إن ما يجعلني في كثيرٍ من الفصول صديقًا لهم هو أنني لا ألبس قناعًا لدى دخولي إليهم، فإنني أنا هو أنا كنت في حضرتهم أم لم أكن آخذًا بعين الاعتبار وغير مهملٍ الملامح الرئيسيّة لدوري الحقيقي بينهم.

قُتل هانز

أعتقد أن سلامًا قد اقترح علي فكرة إنشاء المدونة قبل ما يقارب الأربع سنوات، ولطالما كانت الفكرة متوهجةً في ذهني، إنما لم أملك الوقت  الكافي ولم أملك النشاط أيضًا لبدئها، إضافة لخشيتي من أن تصبح مشروعًا فاشلًا، ولست على استعدادٍ لمواجهة أي خسارة، على الأقل في هذه الفترة المزدحمة من حياتي وازدحامي بذهني. ولكن وبينما أنا أقرأ رواية “تحت العجلة” لهرمان هسه، فإنني قد عزمت لأثرها على نفسي أن أتخذ هذه الخطوة، وأحب أن أشارككم عدّة مقاطع من هذه الرواية إذ وجدت فيها ما يجب عليّ أن أفهمه أكثر عن مهتني كمعلم وربما وبما وجدت من هذه المقاطع أصبح أكثر تفهمًا للطلاب الذين أعلّم.
١:
“إن الإنسان كما خلقته الطبيعة كائن غامض، خطير، لا يمكن التكهن به، إنه تيار مندفع من جبال غير معروفة، غابة قديمة غير منتظمة، لا طرق فيها ولا مسالك. ومثل الغابة القديمة يجب أن يُضاء ويُنظف ويُحدَّد بعنف، هكذا يجب على المدرسة أن تكسر شوكة الإنسان البدائي وتنتصر عليه وتحده بقوة، ومن مهماتها أن تُصيِّره عضوًا نافعًا في المجتمع وفق الأسس المتعارف عليها وأن توقظ فيه الصفات التي تتوِّج تربيتها التامة حينئذٍ بأنهاء أخلاق الثكنة العسكرية الدقيقة.”
٢:
“ومعروف منذ عهد قديم أن بين النابغة وجماعة المدرسين هوةٌ عميقة، وكل ما كان يأتي به هؤلاء النوابغ من أعمال في المدرسة يعتبرها المدرسون أساسًا نوعًا من الفضائح. إن النوابغ يعنون لهم أولئك الأشرار الذين لا يُظهرون أمامهم أي احترام، ويبدأون التدخين في سن الرابعة عشرة، ويدخلون عالم الحب في الخامسة عشرة، ويرتادون الحانات في السادسة عشرة، ويقرؤون الكتب الممنوعة ويكتبون الموضوعات الفاضحة ويسخرون من مدرسيهم، وتُسجل أسماؤهم في دفتر الملاحظات اليومية على أنهم مثيروا الشغب ويُرشحون للحبس المدرسي الشديد. إن أي ناظر مدرسةٍ كان يفضل بعض الحمير في صفه على وجود نابغةٍ واحدٍ فقط، ويضع نصب عينيه أن مهمته لا تنحصر إطلاقًا في تنشئة شيطانٍ غريب الأطوار فحسب وإنما تنشئة لغويين ومحاسبين قديرين ورجالٍ مستقيمين. ولكن ليس بوسع المرء أن يتحقق عن الذي يعاني أكثر وأشد تحت وطأة الآخر، المدرس أم التلميذ، ومن هو أكثر تعسّفًا ومشاكسة، ومن الذي يفسد ويخرب الجوانب الأخرى من روحه وحياته دون أن يشعر بالسخط والخجل من شبابه ومن نفسه؟ بيدَ أن ذلك ليس من شأننا، ولنا عزاءٌ في أن الجرح يلتئم دائمًا عند النونابغ الحقيقيّين، ويبرز منهم أناسٌ يتخذون من المدرسة كتحدٍّ لتحقيق أعمالهم الفذة، ثم بعد ذلك يرحلون عن هذه الدنيا، ويملؤون الأفق بهالةٍ قدسيّةٍ جميلةٍ تتخذ منها الأجيال القادمة قدوةً ومثالًا نادرًا ورائعًا يُحتذى به، وهكذا تتكرّر من مدرسةٍ إلى أخرى مسرحية الصراع بين القانون والفكر، ونرى باستمرارٍ أن الدولة والمدرسة تسعيان بجهدٍ لتمزيق جذور هذه النخبة من المفكرين العميقين النادرين الذي يظهرون عامًا إثر عام. وهذه النخبة تتألف بشكل خاص من المغضوب عليهم من قبل نظراء المدارس، ومن المُدانين والفارّين والمفصولين الذين سيعملون فيما بعد على إثراء تراث الشعب. غير أن بعضهم -من يدري كم يبلغ عددهم- يستهلك نفسه في عناده الصامت ويختفي.”
٣:
“التقاه ناظر المدرسة العجوز مرتين فقط، ولم يتجاوز حديثه أكثر من بضع كلماتٍ للمجاملة، وحتى مدرس اللغة اللاتينية وقس البلدة كانا يحيِّيَانه بإيماءةٍ صغيرةٍ حين يصادفانه في الشارع، لم يعد هانز يعني لهم شيئًا، لم يعد ذاك الإناء الصغير الذي يكوّمون فيه كل شيء، لم يعد ذلك الحقل الذي يستوعب كل أنواع البذور، لم يعد يجدي نفعًا إضاعة الوقت معه والاعتناء به.”

إلى منصور بالنيابة عن كل المعلمين

قال الممثل الأميركي بروس وِلِس في أحد أفلامه للشخص الذي كان معه: “ما كنت أرغب في أن أكون بطلًا، إنما لم أجد أحدًا يريد ذلك فاضطررت لأن أكون.” لم أكن لأدرك هذا الشعور الدفين لولا حديثي مع منصور، لم أكن أعرف أنني أحمل شعورًا عميقًا بالكراهية تِجاه ذاك الرجل، وبالفعل لم أحفل بفكرة موته شابًا جرّاء فشلٍ في الكلى، بل كانت سعادتي هي كناية عن انتقام القدر لي وإن كنت لا أحب ما يصطلح عليه الناس من مفهوم الأخير، إنني أوافق ما كتبه الطيب صالح أن الحياة تعاملنا كيفما نفعل نحن.

 

هذه المقدمة القصيرة يمكن لها أن تخبر ملايين القصص التي عانى فيها الطلاب من معلميهم، وأنا أحد أولئك الطلاب، فإن الرجل الذي تحدثت عنه في المقدمة كان مديرَ مدرستي الثانوية يومَ كنت طالبًا في التعليم العام، كنت قد تأخرت في الحضور للمدرسة، فاستقبلنا المدير عابسًا ثم أمرنا باتباعه إلى الصالة الرياضية، نعم كنا نعرف ما الأمر الذي ينتظرنا، إنها التمارين عقوبةً لنا لتأخرنا، أوّل العذابات التي تجرّعنا ذاك الصباح هو مِشية “البطة”، ولمن لا يعرف هذه المشية فإنني أقول له تخيّل إنسانًا يمشي بنفس الطريقة التي يمشي بها البط وهو جلوس، وآخر ما أمرنا أن نفعل هو أن نقوم بمحاكاة مَن يجلس على كرسي، فإذن إن الأمر أصبح تدريبًا عسكريًا، كان يقول خذوا مواقعكم وارسموا بأجسامكم بشكل مجرّد كأنما تجلسون على كرسي، وإنني أحذركم إذ سوف أنطلق من الرقم واحد حتى عشرين ثم تكونوا قد نجحتم بالتدريب ولا بد وأن تعرفوا أنه وفي حال فشل أحدكم بينما أصّعّد في الأرقام فإنني سأرجع إلى واحد وهكذا حتى ينجح الجميع، لقد بلغ بي الإجهاد ما لم تكن طاقتي قادرة على احتماله، وبينما أنا ككل البقية من الطلاب أقوم بهذه الحركة البهلوانيّة بدأ أحد فخذيّ إضافة إلى الركبة بالاهتزاز بشكل متوتّر جدًا، فانتبه المدير لهذا المشهد فابتسم ثم قال انصرفوا.

 

ما كنت أعرف أن الكراهية قد ضربت بجذورها في عمقي ساعتئذٍ، فبعد ما يقارب الأحد عشر سنة ها أنا أجدني أتذكّر المشهد كأنما أشاهده من شاشة سينما، لقد كنت أعتقد أنني أملك ذاكرة باهتة، إنما تشير هذه الذكرى الملونة إلى شدّة بأس ذاكرتي ولكن ومما يبدو فإنها هكذا في مواضع معيّنة من حياتي وها هي لعنة المزاج التي أتتنا بها الحداثة تظهر على أمر حميمي كالذاكرة، ربما لم يكن محمود درويش مُصيبًا بشكل مطلق حين ادّعى أنه لو كان يحلم أقل لما كان قد فقد الذاكرة، ومما يبدو فإن هذا المشهد ما كان ليظهر مُلوّنًا لولا عميق الكراهية لذاك المدير، مما يدعوني أن أخرج درويش من هذه القضيّة إذ المشاعر هنا هي المتحكم الرئيس في الأمر.

 

لقد كنت كعادتي أجيء إلى المدرسة بعد ما أكون قد استحمَمْت وارتديت عطرًا، وما حضرت درسي الأول في ذاك اليوم إلا وقد أُحبطت إذ سال العرق من كل جسمي وبقيت طوال ذلك النهار بسذاجتي المعتادة وبهوسي بنظافتي وحرصي على صورتي الخاصة وانطباع الناس عني لا أرفع يدي عند الكلام والحوار مع الزملاء بل ما رفعتها حتى للمشاركة في الدروس خوفًا أن يلقى مَن بجانبي رائحة تسوءه مني، ولقد كان أداء صلاة الظهر ذات النهار في المدرسة تجربة أكثر مرارةً إذ الأجساد تلتصق أكتافها للاصطفاف للصلاة.

 

أفهم غضبك جيّدًا يا منصور على مَن تحدثت عنهم من المعلّمين، وأقدّر موقفك، وأرجو ألا أكون كأيٍّ من الذين تكره، وأرجو أن أكون لديك ولدى غيرك من الطلاب على الأقل معلمًا لا تتذكرونه بسوء أو بحُسن وأعظم ما أرجو هو أن أكون قد خلقت مفهومًا جديدًا جيّدًا للمعلم في ذهنك وذهن غيرك من الطلاب. ولأكون عادلًا قبل ظالمًا إن كان يمكن لي بصدفة سيّئة أن أكون ولست وفي كل حال أرغب أن أكون فإنني أعتذر لك.

٧ أغسطس / آب ٢٠١٤