قُتل هانز

أعتقد أن سلامًا قد اقترح علي فكرة إنشاء المدونة قبل ما يقارب الأربع سنوات، ولطالما كانت الفكرة متوهجةً في ذهني، إنما لم أملك الوقت  الكافي ولم أملك النشاط أيضًا لبدئها، إضافة لخشيتي من أن تصبح مشروعًا فاشلًا، ولست على استعدادٍ لمواجهة أي خسارة، على الأقل في هذه الفترة المزدحمة من حياتي وازدحامي بذهني. ولكن وبينما أنا أقرأ رواية “تحت العجلة” لهرمان هسه، فإنني قد عزمت لأثرها على نفسي أن أتخذ هذه الخطوة، وأحب أن أشارككم عدّة مقاطع من هذه الرواية إذ وجدت فيها ما يجب عليّ أن أفهمه أكثر عن مهتني كمعلم وربما وبما وجدت من هذه المقاطع أصبح أكثر تفهمًا للطلاب الذين أعلّم.
١:
“إن الإنسان كما خلقته الطبيعة كائن غامض، خطير، لا يمكن التكهن به، إنه تيار مندفع من جبال غير معروفة، غابة قديمة غير منتظمة، لا طرق فيها ولا مسالك. ومثل الغابة القديمة يجب أن يُضاء ويُنظف ويُحدَّد بعنف، هكذا يجب على المدرسة أن تكسر شوكة الإنسان البدائي وتنتصر عليه وتحده بقوة، ومن مهماتها أن تُصيِّره عضوًا نافعًا في المجتمع وفق الأسس المتعارف عليها وأن توقظ فيه الصفات التي تتوِّج تربيتها التامة حينئذٍ بأنهاء أخلاق الثكنة العسكرية الدقيقة.”
٢:
“ومعروف منذ عهد قديم أن بين النابغة وجماعة المدرسين هوةٌ عميقة، وكل ما كان يأتي به هؤلاء النوابغ من أعمال في المدرسة يعتبرها المدرسون أساسًا نوعًا من الفضائح. إن النوابغ يعنون لهم أولئك الأشرار الذين لا يُظهرون أمامهم أي احترام، ويبدأون التدخين في سن الرابعة عشرة، ويدخلون عالم الحب في الخامسة عشرة، ويرتادون الحانات في السادسة عشرة، ويقرؤون الكتب الممنوعة ويكتبون الموضوعات الفاضحة ويسخرون من مدرسيهم، وتُسجل أسماؤهم في دفتر الملاحظات اليومية على أنهم مثيروا الشغب ويُرشحون للحبس المدرسي الشديد. إن أي ناظر مدرسةٍ كان يفضل بعض الحمير في صفه على وجود نابغةٍ واحدٍ فقط، ويضع نصب عينيه أن مهمته لا تنحصر إطلاقًا في تنشئة شيطانٍ غريب الأطوار فحسب وإنما تنشئة لغويين ومحاسبين قديرين ورجالٍ مستقيمين. ولكن ليس بوسع المرء أن يتحقق عن الذي يعاني أكثر وأشد تحت وطأة الآخر، المدرس أم التلميذ، ومن هو أكثر تعسّفًا ومشاكسة، ومن الذي يفسد ويخرب الجوانب الأخرى من روحه وحياته دون أن يشعر بالسخط والخجل من شبابه ومن نفسه؟ بيدَ أن ذلك ليس من شأننا، ولنا عزاءٌ في أن الجرح يلتئم دائمًا عند النونابغ الحقيقيّين، ويبرز منهم أناسٌ يتخذون من المدرسة كتحدٍّ لتحقيق أعمالهم الفذة، ثم بعد ذلك يرحلون عن هذه الدنيا، ويملؤون الأفق بهالةٍ قدسيّةٍ جميلةٍ تتخذ منها الأجيال القادمة قدوةً ومثالًا نادرًا ورائعًا يُحتذى به، وهكذا تتكرّر من مدرسةٍ إلى أخرى مسرحية الصراع بين القانون والفكر، ونرى باستمرارٍ أن الدولة والمدرسة تسعيان بجهدٍ لتمزيق جذور هذه النخبة من المفكرين العميقين النادرين الذي يظهرون عامًا إثر عام. وهذه النخبة تتألف بشكل خاص من المغضوب عليهم من قبل نظراء المدارس، ومن المُدانين والفارّين والمفصولين الذين سيعملون فيما بعد على إثراء تراث الشعب. غير أن بعضهم -من يدري كم يبلغ عددهم- يستهلك نفسه في عناده الصامت ويختفي.”
٣:
“التقاه ناظر المدرسة العجوز مرتين فقط، ولم يتجاوز حديثه أكثر من بضع كلماتٍ للمجاملة، وحتى مدرس اللغة اللاتينية وقس البلدة كانا يحيِّيَانه بإيماءةٍ صغيرةٍ حين يصادفانه في الشارع، لم يعد هانز يعني لهم شيئًا، لم يعد ذاك الإناء الصغير الذي يكوّمون فيه كل شيء، لم يعد ذلك الحقل الذي يستوعب كل أنواع البذور، لم يعد يجدي نفعًا إضاعة الوقت معه والاعتناء به.”

أضف تعليق